سُلطان بن خلفان اليحيائي
في بدرٍ الكبرى كانت الكفّة تميل للباطل عددًا وعتادًا لكنّ السماء كانت مع الإيمان. خرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثمائةٍ وبضعةِ عشرَ من المؤمنين، يواجهون ألفًا مدجّجين بالسلاح. كانت السيوف قليلة والخيل معدودة، لكنّ العزائم ملأت الصحراء حتى قال ربّ العزّة: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.
سقط من المُسلمين 14 شهيدًا، فكان دمُهم أولَ مدادٍ في سفر النصر، لأنّ المعارك الفاصلة لا تُكتب إلا بدماء الشهداء، ولأنّ الحقّ لا ينتصر حتى يُمتحَن بأغلى ما في الإنسان.
وفي طوفانِ الأقصى تكرّر المشهد لكن على أرضٍ اسمها فلسطين. كانت بدرٌ روحًا، وكان الطوفان امتدادًا لها. رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه خرجوا من تحت الأرض كما خرج الأبطال من صحراء بدر، يواجهون أعتى قوّةٍ عسكريةٍ مدعومةٍ من الغرب ومن جبناءٍ بين العرب. سطّر رجالُ المقاومة الإسلامية - أسودُ حماس وسرايا القدس - أروعَ ملحمةٍ في تاريخِ الأمّة الحديث، وأيقن العدوّ أنّ دولته إلى زوالٍ وإن طال بها الزمن.
ولأنّ النصر لا يُمنَح إلا بعد تضحية، قدّمت غزّةُ خيرةَ رجالها، بينهم قياداتٌ بارزةٌ (إسماعيل هنيّة، يحيى السّنوار، ومحمد الضيف)، وغيرهم من الشهداء الذين باعوا الدنيا بالآخرة. كما في بدر، سقط الشهداء فارتفع النصر وتهاوت أسطورةُ الكيان الذي قيل عنه إنه لا يُقهَر. إنّها سنةٌ إلهيّةٌ: لا فجرَ بلا دم، ولا نصرَ بلا تضحية.
قافلةُ الصمود على خُطى الهجرة والبدر
ومن وهجِ الطوفان انطلقت قافلةُ الصمود؛ قافلةٌ لم تكن رحلةً سياحيّة، بل استمرارًا لروحِ بدر والهجرة معًا. كما غادر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مكة تاركًا الأهلَ والدار لأجل كلمةِ الحقّ، خرج رجالٌ ونساءٌ من عُمان وسواها يحملون ضميرًا حيًا، آمنوا أنّ نصرةَ الإنسان واجبٌ قبل أن تكون موقفًا سياسيًا.
في مقدّمةِ القافلة وقفت أُمامه اللواتية، وإلى جانبها جمال الرئيسي. كلاهما لم يخرجا بحثًا عن شهرةٍ ولا عائدٍ دنيوي، بل عن رضا الله ونصرة المظلومين. أيّامٌ وليالٍ من التعب والعطش والجوع، طرقٌ وعرة ووجوهٌ أنهكها الصبر، ومع ذلك ظلّت العزيمة تتوهّج في العيون. كانت خطواتهم تُذكّر بخطى المهاجرين حين قالوا: نهاجر إلى الله ورسوله لا نبتغي إلا وجهه الكريم.
من أسماءَ إلى أُمامه ومن خالدٍ إلى جمال
في أُمامه صدقُ أسماءَ بنتِ أبي بكر، ذاتِ النطاقين، التي حملت زادَ الهجرة فوق الخطر، تؤمن أنّ خدمةَ الحقّ لا تحتاج سلاحًا؛ بل قلبًا لا يعرف التراجع.
وفي جمالِ الرئيسي بأسُ خالدِ بنِ الوليد، سيفِ الله المسلول، يقتحم الصعاب بثباتِ المؤمن وطمأنينةِ من باع نفسه لله.
كانت قافلتُهم هجرةً وبدرًا معًا، لا سيوفَ فيها ولا خيل، لكنّ فيها صدقَ العزمِ وإخلاصَ النيّة، فصاروا شاهدين على أنّ الإيمانَ إذا وُجِد تحوّل الطريقُ الشاقُّ إلى سموٍّ إنسانيٍّ رفيع.
الإنسانيّةُ لا تُسيَّس
ما فعلوه لم يكن شعارًا سياسيًا؛ بل فعلَ إيمانٍ صادقٍ لا يعرف الأعراق ولا الحدود. خرجوا بدوافعِ الرحمة، ووقفوا إلى جانبِ الحقّ حين صمت الكثيرون. فالإنسانُ إن لم ينتصر لأخيه المظلوم، كان شريكًا في ظلمه بصمته.
ختامٌ يجمع الغزوتين
قد لا تُقيم الحكومات احتفالًا بأبطالها خشيةَ الحسابات الدبلوماسيّة لكنّ ذاكرةَ الشعوب أصدق وأبقى. يكفي أُمامه وجمالًا أنّ اسميهما صار رمزًا للوفاء في قلوب العُمانيين، كما يكفي شهداءَ غزّة أنّ دماءهم صارت وقودًا لمعركةٍ لا تنطفئ.
وهكذا تمتدّ السلسلة من بدرٍ إلى طوفانِ الأقصى، ومن المهاجرين الأوائل إلى قافلةِ الصمود، روحٌ واحدةٌ ورايةٌ واحدة، عنوانها قوله تعالى: ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾.
فطوبى لمن سار على هذا الدرب المبارك، يعيد للأمّة وجهها ويثبت أنّ العزّة لله ولرسوله وللمؤمنين.